سورة النحل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قلت: {وقد جعلتم}: حال، و{أنكاثًا}: حال من الغزل، وهو: جمع نِكْث- بالكسر- بمعنى منكوث، أي: منقوض. و{أن تكون}: مفعول من أجله، و{تتخذون}: جملة حالية من ضمير {تكونوا}.
يقول الحقّ جلّ جلالة: {وأوفوا بعهد الله}؛ كالبيعة للرسول- عليه الصلاة والسلام- وللأمراء، والأيمان، والنذور، وغيرها، {إذا عاهدتم} الله على شيء من ذلك، {ولا تَنقضوا الأيمان}؛ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان، {بعد توكيدها}؛ بعد توثيقها بذكر الله، أو صفته، أو أسمائه، {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً}؛ شاهدًا ورقيبًا، بتلك البيعة؛ فإن الكفيل مراع لحال المكفول رقيب عليه، {إن الله يعلم ما تفعلون} في نقض الأيمان والعهود. وهو تهديد لمن ينقض العهد، وهذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في بها خير، وأما ما كان تركه أولى فيُكَفِّرْ عن يمينه، وليفعل الذي هو خير، كما في الحديث.
{ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غزلها}: أفسدته {من بعد قوة} أي: إبرام وإحكام؛ {أنكاثًا} أي: طاقات، أي: صيرته طاقات كما كان قبل الغزل، بحيث حلت إحكامه وإبرامه، حتى صار كما كان، والمراد: تشبيه الناقض بمَن هذا شأنه، وقيل: هي ريطة بنت سعد القرشية؛ فإنها كانت خرقاء- أي: حمقاء- تغزل طول يومها ثم تنقضه، فكانت العرب تضرب به المثل لمن قال ولم يُوف، أو حلف ولم يَبر في يمينه. {تتخذون أيمانكم دخلا بينكم} أي: لا تكونوا متشبهين بامرأة خرقاء، متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم. وأصل الدخل: ما يدخل الشيء، ولم يكن منه، يقال: فيه الدخل والدغل، وهو قصد الخديعة.
تفعلون ذلك النقض؛ لأجل {أن تكون أُمةٌ هي أربى من أمةٍ}: بأن تكون جماعة أزيد عدداً وأوفر مالاً، من جماعة أخرى، فتنقضون عهد الأولى لأجل الثانية؛ لكثرتها. نزلت في العرب، كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها، غدرت الأولى، وحالفت الثانية. وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش؛ إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين، فحذر من بايع على الإسلام أن ينقضه لما يرى من قوة كفار قريش.
{إنما يبلوكم}: يختبركم {اللهُ به}؛ بما أمر من الوفاء بالعهد؛ لينظر المطيع منكم والعاصي. أو: بكون أمة هي أربى، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله، أم تَغْتَرُّونَ بكثرة قريش وشوكتهم، وقلة المؤمنين وضعفهم؟ {وليُبَيننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} في الدنيا؛ حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب. {ولو شاء اللهُ لجعلكم أمةً واحدة}؛ أهل دين واحد متفقين على الإسلام، {ولكن يُضل من يشاء} بعدله، {ويهدي من يشاء} بفضله، {ولتُسألنَّ يوم القيامة}؛ سؤال تبكيت ومجازاة، {عما كنتم تعملون} في الدنيا؛ لتُجازوا عليه.
{ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم}، كرره؛ تأكيدًا؛ مبالغة في قبح المنهي عنه من نقض العهود، {فتزِلَّ قدمٌ} عن محجة الإسلام {بعد ثُبوتها}: استقامتها عليه، والمراد: أقدامهم، وإنما وُحد ونُكِّر؛ للدلالة على أن زلل قدم واحد عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟ {وتذوقوا السُّوءَ}: العذاب في الدنيا {بما صددتم عن سبيل الله} أي: بصدكم عن الوفاء بعهد الله، أو بصدكم غيركم عنه؛ فإن من نقض البيعة، وارتد، جعل ذلك سُنَّة لغيره، {ولكم عذابٌ عظيم} في الآخرة.
{ولا تشتروا بعهد الله} أي: لا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم بأخذكم {ثمنًا قليلاً}: عرضًا يسيرًا من الدنيا، بأن تنقضوا العهد لأجله. قيل: هو ما كانت قريش يعدونه لضعفاء المسلمين، ويشترطون لهم على الارتداد، {إِنَّما عند الله} من النصر والعز، وأخذ الغنائم في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، {هو خيرٌ لكم} مما يعدونكم، {إن كنتم تعلمون} ذلك فلا تنقضوا، أو إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
{ما عندكم} من أعْرَاضِ الدنيا {يَنْفَذُ}؛ ينقضي ويفنى، {وما عند الله} من خزائن رحمته، وجزيل نعمته {باقٍ} لا يفنى، وهو تعليل للنهي عن نقض العهد؛ طمعًا في العَرَضِ الفاني، {وليجزين الذين صبروا} على الوفاء بالعهود، أو على الفاقات وأذى الكفار، أو مشاق التكاليف، {أجرهم بأحسنِ ما كانوا يعملون} بما يرجح فعله من أعمالهم، كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، من شأن الصالحين الأبرار، كالعباد والزهاد، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين: فلا يقفون مع شيء، ولا يعقدون على شيء، هم مع ما يبرز من عند مولاهم في كل وقت وحين، ليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت، وذلك من شدة قربهم وفنائهم في ذات مولاهم. قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، فهم يتلونون مع الشؤون البارزة من السر المكنون؛ فمن عقد معهم عقدًا، أو أخذ منهم عهدًا، فلا يعول على شيء من ذلك؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم، بل هي بيد مولاهم. وليس ذلك نقصًا في حقهم، بل هو كمال؛ لأنه يدل على تغلغلهم في التوحيد حتى هدم عزائمهم، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم، وإلاَّ فحسبه التسليم، وطرح الميزان عنهم، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {مَن عَمِلَ صالحًا}؛ بأن صحبه الإخلاص، وتوفرت فيه شروط القبول، {من ذَكَرٍ أو أنثى وهو مؤمن}؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب، {فلنحيينَّهُ حياة طيبةً} في الدنيا، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي: يعيش عيشًا طيبًا، فإنه، إن كان موسرًا، فظاهر، وإن كان معسرًا يطيبُ عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة، وتوقع الأجر العظيم، بخلاف الكافر، فإنه، إن كان معسرًا فظاهر، وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه، وقيل: في الآخرة، أي: في الجنة. اهـ. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} من الطاعة، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.
الإشارة: الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها:
وإنْ خَطَرَتْ يومًا على خاطرِ امرىءٍ *** أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضًا في شأنها:
فما سكنَتْ والهمّ يومًا بموضع *** كذلك لا يسكُنْ مع النَّغَم الغَم
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم؛ لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل: أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً... وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ؟ وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم، آمين.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {فإِذا قرأتَ القرآنَ}؛ أردت قراءته، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المَائدة: 6]، {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي: فسل الله أن يعيذك من وسواسه؛ لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحق عند التلاوة، وعن عطاء: أنه واجب. ومذهب مالك: أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة: يتعوذ في كل ركعة؛ تمسكًا بظاهر الآية؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة في ترك التعوذ في الصلاة. وهو تابع للقراءة في السر والجهر، وعن ابن مسعود: قرأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال: «قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ثم قال تعالى: {إِنه ليس له سلطانٌ} أي: تسلط وولاية {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} أي: لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به، والمتوكلين عليه، فإنهم لا يطيعون أوامره، ولا يصغون إلى وساوسه، إلا فيما يحتقر، على ندور وغفلة. {إِنما سلطانه} أي: تَسَلُّطُهُ {على الذين يتولونه}: يحبونه ويطيعونه، {والذين هم به} أي: بالله، أو: بسبب الشيطان، {مشركون}؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.
الإشارة: الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هي: الغيبة عنه في ذكر الله أو شهوده، فلا ينجح في دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى: {ففروا إِلَى الله} [الذَّاريات: 50]. فإن الشيطان كالكلب، كلما اشتغلت بدفعه قوي نبحه عليك، فإما أن يخرق الثياب، أو يقطع الإهاب، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو، فاتتك محبة الحبيب، ونال مراده منك. اهـ.
فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان، ثم بالقلب، ثم بالروح، ثم بالسر، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط، أو يذعن له ويسلم شيطانه، فإنما حركه عليك؛ ليوحشك إليه. وفي الحكم: (إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده). فإذا تعلقْتَ بالقوي المتين، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتي مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ...} [فَاطِر: 6] الآية. وبالله التوفيق.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14